(ياسر قشلق)
أملت إسرائيل أن يسفر عدوانها الأخير على غزة إلى تغيير (الخارطة الإستراتيجية) في المنطقة إلى غير رجعة، منطلقةً من وهمٍ نُقل إليها من بعض الباحثين ورجال الموساد مفاده أن «القضاء على حركة حماس من شأنه أن يفضي إلى عملية فصل حدود مع إيران»، وذلك على اعتبار أن حركة حماس ما هي إلا امتداد للجمهورية الإسلامية، وبالتالي القضاء عليها ما هو إلا قضاء على (النفوذ الإيراني في الخاصرة الإسرائيلية). هذا الوهم الاستخباراتي لا يختلف البتة عن نظيره الذي أشعل فتيل حرب تموز عام 2006 مع حزب الله اللبناني، بل إنه يكاد يتطابق معه تماماً، وللأسباب السابقة ذاتها.
ياسر قشلق
ولأن مقدمات الحرب كانت كاذبة (وهمية) كان من الطبيعي ألا تعطي النتائج المرجوة منها والمتمثلة بفك (الارتباط مع الجانب الإيراني) كمستوى أول، ثم فرض تسوية نهائية تصب في صالح إسرائيل كمستوى ثاني… بل على العكس من ذلك أسفر العدوان الإسرائيلي عن خلط أوراق المنطقة بطريقة (هزلية) هددت أولاً وآخراً كل الحلول المطروحة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي في السنوات القليلة الماضية، وخاصةً (المبادرة العربية للسلام). ويمكن القول: أننا وبعد عدوان (الكانونين) على غزة أصبحنا أمام تغيّر واقعي في الشرق الأوسط، ولكن هذه المرة من جهة «المعطيات» وليس من جهة «الخارطة الإستراتيجية» كما أملت إسرائيل أن يحدث، ففشل إسرائيل في تحقيق أهدافها أهدى حماس والمقاومة الفلسطينية أوراقاً جديدة للتعاطي تكاد تكون بمعظمها رابحة، وهو ما يمكن تلمسه من خلال (غزل الدول الأوربية) مؤخراً لحماس، وإعلانها الصريح أنه لا يمكن الحديث عن حل نهائي دون مشاركتها فيه. تغيُّر المعطيات هذا أدركته أيضاً دول المنطقة (معتدلة وممانعة)، وانعكس ذلك بشكل واضح خلال قمة غزة الطارئة في الدوحة حين أعلنت الدول المشاركة –وعلى رأسها سورية- موت (المبادرة العربية للسلام).. ثم لتأتي بعد ذلك (قمة الكويت الاقتصادية)، حين ألقت السعودية أثناءها مفاجأتها المتمحورة حول (طي صفحة الخلافات العربية)، والتي لم يكد يمضي كثير من الزمن لاكتشاف أن الهدف الحقيقي منها يتمثل بـ(إعادة إحياء المبادرة العربية للسلام) من جديد. والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذا التأرجح حول الحفاظ أو تضييع مبادرة السلام العربية؛ هل حقاً الخلاف العربي الإسرائيلي يتمحور حول طريقة الوصول إلى السلام؟ أم أنه لا يعدو كونه خلافاً أيديولوجياً يتمحور حول فكرة السلام نفسها؟ بالتأكيد؛ هو خلاف أيديولوجي بامتياز، فإسرائيل لن تتقبل أبداً فكرة وجود الآخر، وما يغذي هذا الأمر عندها أعمق بكثير مما يدور في فلك الشرق الأوسط من محاور ومبادرات تحاول الوصول إلى تسوية بشكل أو بآخر، وبالتالي مآل هذه المبادرات هو الفشل الحتمي حتى لو وظّف العرب كل أدواتهم للمضي فيها، اللهم إلا إذا نجحوا قبل ذلك بتشكيل الفكر الصهيوني القائم على التوسع والعدوان من جديد، فعندها يمكنهم الحديث مع هذا الكيان عن السلام. وما يدعو للأسف أننا ندرك جميعاً هذه الحقيقة، لكن بعضنا يتصرف عكسها تماماً، فبدل أن نستغل جميعاً المعطيات الجديدة التي أفرزتها المقاومة في غزة، والضعف الحقيقي الذي تعانيه إسرائيل، نتعامل مع كل ذلك وكأنه غير موجود، وها نحن مرةً أخرى نعطي إسرائيل فرصةً أخرى للمراوغة وتضييع الوقت عبر (مبادرة السلام العربية) لتحضر على مهل لعدوانها المقبل. وما يفوتنا على الدوام هو الأساس الموضوعي الذي نبني عليه سياساتنا بعيداً عما يوهمنا به الآخرون، وكما يقول شارل ديغول: «إنني لا أرسم سياسة فرنسا على أساس ما يقوله الأطراف ولا على أساس ما أظنه من نواياهم… وإنما على أساس القدرات الحقيقية لهؤلاء الأطراف».